هذه الفترة كل يوم أسمع شجارات الجيران وبكاء الاطفال وضغط لايحتمل ، أو حتى احدهم يتحكم في الآخر بمنتهى التسلط من باب الحماية أو حتى أحيانا تتجاوز المخالفات قدرتنا على الغفران ، ذلك حين تتعدى النقاط الحمراء و ما نضعه نحنُ في خانةِ الثوابت أو المقدّس . و هنا ، ينبغي على الذين يقيمون السلوك البشري أن يضعوا أمامهم هذا السؤال : لو كنتم في موضع من انتهكت حدوده، كيف ستفعلون !
إن تقديرنا و فهمنا للنفس البشرية ، ثم تصنيفنا لقائمة طويلة من المعايير لا يعني البتّة أن نضحّي بأسسنا في مقابل الظهور أمام الآخرين بمظهر حضاري مزيّف و ثورتنا التي تأخذ أحياناً لون البركان و عنفوانه ليست خطأ ً على الدوام ، فللمرونة الإنسانية حدودٌ إذا تعدّاها الآخرون تصبحُ ردة فعلنا إلى محض بهلوان مقدّس ، يأكل الأخضر و اليابس
عندما تختفي القيم المطلقة و المعان المعيارية من خلَدِنا ، و تئيضُ الأراجيفُ و " الأنا " محكاتٍ للتداعي الاجتماعي ، هناك فقط تتفشى الذات و تعظّم حقها في الانتصار و الغلبة ، و ينصرف أكثر من 90% من تفكيرنا إلى النفس وداخلها ، و عند ذلك و حسب ننتصرُ لأنفسنا بشراسةٍ متناهية دون ادنى تفكيرٍ بما قد يخلقه هذا النصرُ الآني من جروحٍ غائرةٍ قد لا يضمدها الزمن الآتي
فماذا لو كبرنا على ألامنا و أحزاننا و انتصرنا للمطلق على حساب قليلٍ من الطمأنينة و الشعور الزائف في كسبِ أيّ سجالٍ وهميّ ! عندما تأتيني ضامّاً قبضتيك و تمطرني بوابل صيّبٍ من الفحشاء ، فليس أسهل من أن أضمّ قبضتيّ و أزجي إليك الودْقَ أحمرَ قانياً ، ثم اعترك معك حتى مطلعِ القهر لكن ، ماذا لو جرّبنا البحث عن نقاطنا المشتركة العامة؟
ماذا لو افترضنا أننا نتشاجر فقط لأننا نشترك في نفس الهم و لأنّ أحدنا يريدُ أن يساعِد الآخر ! عندما تنفجرُ في وجهي و تكيلُ إليّ ما تيسر من غضبك فإنك بذلك قد تربح الجولة الأولى ، لكنك قطعاً تخسرُ في النهاية لأن شعورك بجرح إنسانٍ آخر سيلهب ظهرك مهما بلغت درجة صلادتك كما أنّ صفّك سيتصدّع من الناحية التي فيها أنا و ثقبٌ غائرٌ سينشأ كنتُ أسدّه و إن لم تكن تحس بذلك ، أو على الأقل سيتسرب إليك الظلام من خلال هذه اللبنة التي ترفضُ أنت بقاءها حواليك .
قال لينكولن : ( ليس هناك شخص عزم على أن يستفيد من نفسه الاستفادة القصوى ثم تجدهُ يدّخرُ وقتاً للنـزاعِ الشخصي ! و مع هذا فقلما يستطيعُ تحمّل عواقب هذا بما في ذلك إفساد مزاجه و فقدانه لضبط النفس . تنازل عن الأشياء الكبرى التي لك فيها حقٌّ مساوٍ للآخرين ، و تنازل عن الأشياء الصغرى و إن كان واضحاً أنها لم تماماً فالأفضل أن تفسحَ الطريق للكلبِ عن أن يعضّك و أنت تتسابق لتحديد من المحق ، فإنّك و إن قتلت الكلب فإنك لن تشفى من عضّته )
بكل تأكيد هذه حكمة تستحقّ أن نعلقها على جدارن حياتنا اليومية ، فالحكمة ضالّة المؤمن ، و خذوا الحكمة حتى إذا وجدتموها مرميّةً على السكك . كما أنّ هذا العبقري لينكولن هو من أروع من كتب مذكرات الحكمة و الدهاء و دعنا الآن من " لينكولن " و لنتساءل سويّاً :
كيف تنشأ العداوات و كيف نتجاوزها ..؟
لا شكّ أن النزوع إلى التقدير و تحقيق الذات هو المطلب الأسمى للكائن البشري ، و عليه يقيم معاقد الولاء و البراء .و إنّ معظم الخلافات تنشأ نتيجة سعي الأطراف إلى تحقيق فوزٍ على حساب الآخر ملغيين أحقّية هذا الآخر في تحقيق جزء من الاعتبار النفسي لديه ، و رافضين أدنى تنازل لمصلحة الآخر . ماذا لو أعطينا الآخر هذا الاعتبار النفسي ثمّ انطلقنا من هذا الاعتبار إلى ما يطرأ من مستجد فيما بيننا و اعتمدنا مبدأ :
لننظر سويّاً ، بدلا ً عن " أنا أرى ، و في تصوّري ألن يكون ذلك أجدى . الحفاظ على كبرياء الآخر و شموخه و اعتباره لنفسه هو مطلب سامي في حفظ الصـف الاجتماعي متيناً متماسكا ، و في تجنّب الخلافات صغيرةً و كبيرة .
إنّ جرح كبرياء الآخر و التضييق عليه دون منحه فرصة ليحفظ ماء وجهه هو الغائرُ الأكبر في الوجود الإنساني ، و الصدمة التي لا تبرأ بسهولة .
فلماذا نحتفظُ بما نظنّه حقّاً لنا و إن قاد ذلك إلى أن نخسرَ أخاً كريماً ، أو مكسباً اجتماعيّاً فاضلاً ؟ و لماذا نجرّد الآخرين من فضائلهم لمجرد اختلافنا معهم في الرأي ، أو في قضايا شخصيّة ؟إننا نحكم على تصرّفات الآخرين في الغالب كما يقول عالم النفس روجرز من خلال تصوّرنا نحن لهذا الشخص أو لهذه الممارسة ، ولو أننا منحنا أنفسنا لحظاتٍ للتفكير في المعنى المقصود من هذا الشخص أو في هذا التصرّف فإننا لن نجِد طريقاً للاختلاف
هل سنخسرُ شيئاً إذا وضعنا أنفسنا في مكان الآخر ، قم سألنا أنفسنا ماذا يمكننا أن نفعل لو كنّا في مثل مكانه ..؟
أسس صناعة المشاكل في نسيجنا الإنساني لا تقفُ عند عطشنا للتقدير و مصادرة هذا التقدير من الآخرين ، أو محاولة ذلك بل تنشأ أكثر في منطقة الجدل و التسابقُ على الاستمناح المجتمعي لأي نوعٍ من النصر لإرضاء قصور في الهمّة عندنا ، نحاول جاهدين أن نغطيّه بجدل ٍو نصرٍ مستفيض . فهل نربحُ شيئاً في الجدل ؟
حين ندخلُ في جدلٍ من أيّ نوعٍ فنحن خاسرون بطريقةٍ أو بأخرى .حتى و إن ربحنا المعارك الآنية فلدينا قائمةٌ طويلةٌ من القلوب ستظلّ تتقلصُ حتى نجدَ أنفسنا وحيدين نجادل طواحين الهواء في نهاية الأمر
فأنت قد تكونُ مصيباً تماماً و أنت تمضي في جدالِك ، و لكنك في الأخير لن تنجح في تغيير وجهة الآخر و لا توجد طريقةٌ أفضل لكسب أي جدال غير اعتزال الجدل
لم يكن شيئٌ أحبّ إليّ من أن أقول لآخرٍ "أخطأت" ، ثم ماذا اربح بعد هذه المقولة ؟ قطعاً لا شيئَ غير جرح كبرياء الشخص المتحدّث و قبل ذلك جرح تقديره لنفسه ، ثم اخسرهُ ربما إلى الأبد .فالانسان كائنٌ لا يميلُ إلى شيئٍ مثل ميله إلى تقدير ذاته و اعتبارها ، و لا يتعطّشُ إلى شيئٍ قدر تعطشه إلى الثناء و المديح ليحقق طمأنينة وجودية عند ذاتِه، و يحسّ في نفسه أنّهُ إنسانٌ مهم كما يقول فرويد ، فإن أهم غاية يسعى إليها الكائن البشري هي الرغبة في الظهور الهام لنفسه عند الآخرين ! لذا ، ما الذي نجنيه نحنُ من نقد الآخرين ، و تقريعهم ..! كان جاليليو يردد : علموا الناس ما لا يعرفون كما لو كانوا قد نسوه من قبل ، و أوصلوا إليهم ما يجهلونه دون أن تشعروهم أنكم أحسن حالاً منهم ـ لأن الانسان حين يواجه بنقيض فكره و تصوّره فإنه يبحث عن مبررات مهما كانت واهية لتحقيق ذاته ليس من باب الدفاع عن معتقده فحسب ، بل احتراماً لتفكيره و ذاته التي أوشكت أن تهتز نتيجة ظهور عامل خارجي يدعي الفوقيّة في تصنيف الخطأ و الصواب .
و من هنا فإن الانسان الذي يقتنع بعكس ما يرغب يظلّ على رأيه الأول مهما كانت الحجة و المنطق .و حين نضطرّ الآخر إلى قول ( لا) من البداية فإنه سيكون من الصعوبة بمكان أن نجبره على تغيير موقفه إلى ( نعم) مهما كانت حججنا المنطقيّة ، لأنه سيحترم هذه المرّة ليس فكره فحسب ، بل شخصيته التي قالت ( لا ) ... فهل هذا هو ما نرجوه من الجدل ؟
القلوب مثل النبتةِ الطريّةِ ، لا تنمو في مجرى السيل ، و لا تستطيعُ مقاومة الريح مهما ادعى السيلُ أنهُ " ماء " أو تحدّثت الريحُ عن أنّها رسول اللقاح ..! فلا يوجدُ فيها مخطئٌ على الدوام أو شرٌّ محضٌ مطلق كما أنّنا لا يمكن أن نستغني عن إنسانٍ مهما صغُر شأنُه فكلّ ميسّرٌ لما خلق له "، فالأحسن الابتعاد عن التفكير في حقيقة أنّ الله خلق الخلق مختلفين في مستويات الذكاء ، ثم محاولة اقناعهم بذلك عن طريق المقارعة بالحجة و البيّنة "، و أحسنُ من ذلك الاهتمام بدارك الزجاجي عن أن تقعَ عليه أيادي حجرية تثأر منك !
أنا واحدٌة من اولئك الذي يمارسون كل الجنون في لحظات الغضب ، غير أنّي رأيتُ بعد أمدٍ أنهُ لا يوجد شيئٌ أجمل من حب الناس و الوقوف معهم في ظل المشترك الانساني العام الذي يطغى على كل الخلافات مهما صغرت تعلمتُ أن أضحي بأشياء كبيرة هي لي و يشترك معي فيها آخرون ، و أن أتنازل عن حقوق صغيرةٍ لي مقابل توسيع عقلي ومشاعري لدخول عنصر إنسان جديد فيه
غريبةٌ هي النفس البشرية فاحرص على القلوب أن تكسرها فربما يُشَعّبُ كسرها و لا تجبرها الأيام .
